يشهد الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة ارتفاعًا متسارعًا في مستويات الدين بين الحكومات والشركات والأُسر، وهو اتجاه يثير قلق الخبراء والمؤسسات المالية الدولية. مع تزايد الضغوط الاقتصادية وتباطؤ النمو في عدة دول، أصبح الاعتماد على الاقتراض وسيلة أساسية لتمويل الإنفاق ودعم القطاعات الأكثر تضررًا. ورغم أن الدين قد يكون أداة فعّالة لتعزيز النمو في بعض الحالات، إلا أن بلوغه مستويات قياسية ينذر بعواقب اقتصادية قد تمتد لسنوات.
أولًا: جذور تفاقم أزمة الديون العالمية
1. تأثيرات جائحة كوفيد-19
أجبرت الجائحة الحكومات على زيادة الإنفاق العام بشكل غير مسبوق عبر دعم الشركات وتمويل الرعاية الصحية وتقديم حزم دعم للأُسر. ومع أن هذه السياسات كانت ضرورية لتجنّب انهيار اقتصادي فوري، إلا أنها رفعت عتبات الدين العام إلى مستويات قياسية، خصوصًا في الاقتصادات النامية والناشئة.
2. أسعار فائدة منخفضة لفترات طويلة
سياسات البنوك المركزية الداعمة للاقتصاد، من خلال إبقاء أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة، خفّضت تكلفة الاقتراض وشجعت الحكومات والشركات وحتى الأفراد على الاستدانة بوتيرة أسرع لتمويل التوسع أو تسوية الاحتياجات القصيرة الأجل.
3. توسع الشركات عبر السندات والتمويل
لجأت كثير من الشركات إلى إصدار سندات ورفع مستويات الرفع المالي لتمويل مشاريع النمو أو التعامل مع تقلبات السوق، ما زاد من المديونية في القطاع الخاص وخاصة بين الشركات ذات التصنيف الائتماني الأدنى.
ثانيًا: المخاطر والتداعيات المحتملة
1. ضغوط تضخمية متزايدة
ضخ مزيد من الأموال في الأسواق عبر برامج الدعم والاقتراض قد يساهم في ارتفاع الطلب الكلي، ما ينعكس بزيادة الأسعار والضغط على القوة الشرائية للمستهلكين، خصوصًا في الدول التي تشهد طلبًا داخليًا قويًا.
2. ضعف المرونة السياسية لمواجهة الأزمات
الدول ذات المديونية العالية تقلّ قدرتها على تبنّي سياسات مالية توسعية عند الضرورة، لأن حيز المناورة محدود بسبب تكاليف خدمة الدين والاحتياجات التمويلية المستمرة.
3. ارتفاع تكلفة خدمة الدين مع صعود الأسعار
مع اتجاه عدد من البنوك المركزية إلى تشديد السياسة النقدية لكبح التضخم، ترتفع معدلات الفائدة، ما يزيد العبء على الدول والشركات التي تملك ديونًا متغيرة التكلفة أو احتياطات صغيرة من العملة الصعبة.
ثالثًا: استجابات السياسات الممكنة
دور البنوك المركزية
تحتاج البنوك المركزية لموازنة هدفين متضادين: كبح التضخم من جهة، والمساعدة في الحفاظ على استقرار مالي من جهة أخرى. ويعتمد المسار الأمثل على حالة الاقتصاد المحلي والتعرض الخارجي لمخاطر الديون.
إجراءات لإعادة هيكلة الديون
تقترح المؤسسات الدولية حلولًا مرنة تشمل تمديد آجال الاستحقاق، خفض الفوائد، أو برامج دعم مشروطة لمساعدة الدول الأكثر هشاشة على تجنب التخلف عن السداد دون إحداث اضطراب عالمي.
تحسين جودة الإنفاق
التركيز على إنفاق عام ذي جودة—استثمارات بنية تحتية منتجة، تعليم وصحة أفضل—يساعد على رفع معدلات النمو المستدام وتحسين القدرة على سداد الديون على المدى المتوسط والطويل.
ماذا يعني هذا للمستثمرين وصانعي السياسات؟
- المستثمرون ينبغي أن يراجعوا مخاطر التعرض للدول ذات الدين الخارجي الكبير ويوازنوا محافظهم بما يتناسب مع سيناريوهات رفع الفائدة.
- صانعو السياسات مطالبون بتحريك سياسات مالية دقيقة، تجمع بين ضبط العجز وتحفيز النمو من خلال إصلاحات هيكلية.
- المؤسسات الدولية يجب أن تعزز أدواتها التمويلية المرنة لدعم الدول الأكثر هشاشة دون فرض شروط تقشفية مدمرة.
خاتمة
إن إدارة مستوى الدين العالمي بشكل مسؤول تمثل أحد الاختبارات الكبرى للاقتصاد الدولي في العقد المقبل. فبينما يمكن للدين أن يكون أداة للتمويل والتنمية، فإن إدارته السيئة قد تؤدي إلى ضغوط اقتصادية مستمرة وأزمات متكررة. المتابعة الدقيقة للسياسات النقدية والمالية، وتحسين جودة الإنفاق، والتعاون الدولي في إعادة هيكلة الديون هما مسارات أساسية لتقليل المخاطر وضمان استمرار النمو المستدام.
المصدر: تحليل مركّب استنادًا إلى تقارير المؤسسات المالية الدولية ومؤشرات السوق.